المقالات

تصريح الحج… بين حكمة التنظيم وحرص الرعاية

كما أن الفلاح لا يلقي البذور في أرضه جزافًا، بل يزرع بحسب طاقتها على الإنبات، والماء، والشمس، فإن من يتولى أمر تنظيم الحج لا بد أن يضع في حسبانه القدرة الاستيعابية للأرض والمكان، والأمان للحجاج، وجودة أدائهم للمناسك. وكما أن الأم، مهما كان حبها وعطاؤها، تعجز عن تربية أبنائها إذا كثر عددهم فوق وسعها، وكما أن ربة البيت، مهما كانت مضيافة ونشيطة، لا يسع بيتها فوق طاقته من الضيوف… فكذلك السعودية، وهي الراعية لحج ملايين المسلمين، لا يمكنها أن تفتح الأبواب بلا حساب أو نظام دون أن تتضرر تلك الفريضة العظيمة في معناها ومبناها.

إن قرار المملكة العربية السعودية في موسم الحج هذا العام 1446هـ بالتشديد في شرط “تصريح الحج”، وإبعاد من يحاول التسلل دون تصريح، ليس موقفًا إداريًا مجردًا، بل هو ثمرة مسؤولية دينية، وإنسانية، وتنظيمية، قوامها الحرص على سلامة الحجاج وضمان أدائهم لمناسكهم في أمن وطمأنينة. فالعدد ليس مجرد رقم، بل هو معادلة أمنية، صحية، ولوجستية معقدة، تتطلب من الدولة أعلى درجات التنسيق.

وقد أكدت رئاسة أمن الدولة أن خططها الأمنية هذا العام محكمة ومدروسة، وأن الحاج في أعينها، والمخالف في قبضتها. كلمات واضحة تعكس أن الحج ليس مجالًا للفوضى أو التجاوز، بل هو فريضة لا تكتمل إلا بالاستطاعة، وتنظيم الحج شرط من شروط تحقق هذه الاستطاعة، كما أفتى بذلك أهل العلم استنادًا إلى قوله تعالى: “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا”.

وإن دعوى أن “تصريح الحج” يقف حائلًا دون الفريضة هي دعوى مردودة شرعًا، فالاستطاعة لا تعني مجرد الرغبة أو الحماسة، بل القدرة البدنية، والمالية، والتنظيمية، بما فيها امتلاك التصريح الذي يمنح صاحبه القدرة على الاستفادة من خدمات النقل والإقامة والرعاية الصحية، ويجنبه التكدس والضياع والإرهاق.

المنع من الحج دون تصريح ليس منعًا من الدين، بل هو تطبيق لفقه المآلات، ومن باب دفع المفاسد وجلب المصالح، وهو أمر موكول لولي الأمر الشرعي، الذي له حق تنظيم العبادات الجماعية التي قد يترتب على فوضاها ضرر جسيم. بل إن من لم يستخرج التصريح، فهو بحكم غير المستطيع، ولا حرج عليه في التأجيل.

إن الحج اليوم ليس رحلة فردية في صحراء مفتوحة، بل تجمع بشري يبلغ قرابة مليوني حاج في مساحة محدودة زمنًا ومكانًا، وقد أثبتت التجارب الماضية أن تجاوز الطاقة الاستيعابية للحشود يؤدي إلى أزمات، وحوادث، ومآسٍ، ليست مسؤولة عنها إلا فوضى التنظيم، وعدم احترام الإجراءات.

وفي هذا السياق، تأتي جهود المملكة لتكون الحصن الذي يصون قدسية الشعيرة، وكرامة الإنسان. فحين يقف وزير الداخلية السعودي بنفسه على جاهزية قوات الأمن، ويرى فيها الدرع الواقية للحجاج، فإننا أمام دولة تُدير شعيرة الحج لا كحدث موسمي، بل كأمانة تُحمل على الأكتاف وتُقدم للعالم بحرص وشرف.

وكم هو مؤلم أن يُهاجم من يمنع الفوضى، ويُلام من يسعى لحفظ النفس، في حين أن الواجب شكر المحسن ومكافأة المجتهد، امتثالًا لقول رسول الله ﷺ: “من صَنَع إليكم معروفًا فكافِئوه…”، فالمعروف الذي تصنعه المملكة في الحج لا يعد ولا يُحصى، من التنظيم، والرعاية، والتيسير، وصولًا إلى ضمان أن يعود كل حاج إلى أهله سالمًا وقد أتم فريضته بطمأنينة وراحة.

وفي الختام، فإن “تصريح الحج” ليس عائقًا بل بوابة، وليس حاجزًا بل ضمانة، ومن خشي أن يُحرم من أداء الشعيرة بسببه، فليعلم أن الشريعة لا تُكلف نفسًا إلا وسعها، وأن الله غني عن العالمين. أما السعودية، فهي ليست سوى تلك الأم الحريصة، وربة البيت المحبة، التي تعتذر أحيانًا عن استقبال من تحب، لأنها لا تملك إلا أن تراعي الوسع، وتغرس التنظيم في أرضٍ طاهرة لا تحتمل الفوضى.

حذامي محجوب

صحفية تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى