المقالات

بورصة الدماء وخيام الملايين؟!

لا تكاد تخلو وسائل الإعلام المتنوعة وبشكل شبه يومي وملفت للنظر من دعوة لكافة أفراد القبيلة أو لكافة أطياف المجتمع من المشاركة في عتق رقبة أحد الجُناة الذي استباح قتل النفس التي حرَّم الله قتلها في لحظة غضب شيطانية، أو تحت تأثير جُرعة فخر عنصرية، تلك الدعوة التي تُطالب بجمع الملايين من الريالات من أجل إنقاذه من حد السيف لدرجة أنها أصبحت ظاهرة صاحبها الكثير من العادات السلبية في المجتمعات، كنصب الخيام، وتجمع أبناء القبائل فيها، وإقامة الولائم لاستقبال التبرعات والعطايا، بل تعدتها إلى ما هو أبعد من ذلك كمشاركة الوجهاء والأعيان في الحشود الكبيرة أمام منزل أولياء الدم ومن ثم رمي الأشمغة والبشوت وتكبيل الأقدام أمامهم، وذلك في ظاهرة لا تمت للإسلام بصلة، وتخدش الصورة الإيجابية للمجتمع، خاصة وأنها تحولت في السنوات الأخيرة إلى تجارة استغلها البعض من المنتفعين لخدمة مصالحهم الشخصية والحصول على نصيبهم من مبالغ الديات التي تخطت نصف مليار في بعض القضايا سواء كان ذلك القتل عمدًا أو حتى خطأً، حيث أصبحت تجارة رابحة للعديد من السماسرة العاملين في هذا المجال، ناسين أو متناسين أنه متى ما أُهمل القصاص استخف الناس بالدماء ومتى ما علم القاتل أنه سينجو من الموت أقدم على القتل بلا تردد أو تفكير في العواقب فمن أمن العقوبة أساء الأدب.

ورغم إيماننا الكامل بأن الدية حق مشروع لولي الدم شرعها الله سبحانه وتعالى، إلا أن الإسراف في المطالبة بهذا الحق، أو في تحويله إلى وسيلة للتجمل والمظاهر الاجتماعية والعنصرية المقيتة حولته إلى نوع من التجارة بالأرواح والدماء، وباتت ظاهرة غوغائية لا يقبلها الشرع، ولا يستسيغها المجتمع. فقتلوا بتجارتهم المليونية روح التسامح وفضل العفو والإصلاح قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40) واستبدلوها بتجارة بائرة نجم عنها ظواهر سلبية أثرت على المجتمع بشكل كبير وأذكت روح العصبية القبلية مما أثَّر على القبيلة ونسيجها الاجتماعي، وتحوَّل السعي للعفو عن القاتل إلى ما يشبه بورصة الأسهم بين صعود وانخفاض.

وختام القول وقطعًا لدابر الجشع في الديات، واحترامًا للأحكام الشرعية العادلة ومراعاة لذوي المقتول الذين قد يقعون في أيدي بعض تجار الدماء ممن يستغلون ظروفهم والمبالغة بطلب الدية المليونية مقابل التنازل عن القصاص. فإنه يجب تكثيف الوعي الشرعي بين الناس والتحذير من تلك الظاهرة السيئة، وحثهم على إحياء فضيلة العفو ابتغاءً للأجر والمثوبة من الله تعالى، وكذلك تكريم المتنازلين عن القصاص دون مقابل مادي، والاحتفاء بهم في المناسبات الرسمية للمناطق والمحافظات لتشجيع غيرهم على الاقتداء بهم، والتحدث معهم بشكل مباشر عبر وسائل الإعلام المرئية منها والمسموعة والمقروءة عن هذه المواقف النبيلة التي تدل على شهامة وكرم هذا الإنسان الذي فضَّل العفو على المال.
كما يجب على الجهات المختصة توجيه مشائخ القبائل والوجهاء والأعيان بالتوقف عن تلك المزايدات والمبالغات، وعدم الدخول في تلك المشاورات والمفاوضات مع أهل الدم التي تطالب بالعفو والصفح بأي ثمن، وأن تكون صلاحيات هذا الأمر من خلال لجان تُنشأ في إمارات المناطق ومحافظاتها ومراكزها ويتم تشكيل أعضائها من الكفاءات البارزة المعروفة بالورع التقوى والنزاهة من أهل العلم الشرعي وتكون مهمتها بحث قضايا التنازل عن الجاني أو الإقناع بالدية التي فرضها الشارع الحكيم.
وكذلك يجب على الهيئات الشرعية والفقهية المعتبرة دراسة هذه الظاهرة من كافة النواحي الشرعية وتوضيح ذلك للناس؛ خوفًا من أن يقعون في مخالفات شرعية بجمع ودفع تلك المبالغ المالية التي تفوق ما حدده الشرع بمئات المرات، وأن يحثوا أهل الفكر والرأي من العلماء والأكاديميين وخطباء الجوامع على تكثيف الوعي بين الناس والتحذير، من تلك الظاهرة السيئة، ومعالجتها بما يحقق المصالح ويدفع المفاسد.

وخزة قلم:
إقامة المخيمات والتباهي بدفع الديات تُعد من أهم أسباب إزهاق الأرواح لكونها تحمل رسالة عنوانها: اقتل عمدًا والقبيلة تدفع نقدًا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com