حين نُشر المقال السابق، “صوت من القاعة: عن الندرة والاستقرار والقرار المؤجل”، تذكرت على الفور ردود الفعل التي واكبت “الهجرة الصامتة للعقول (١) و(٢)”. لم تكن تلك النصوص مجرد مقالات، بل كانت بمثابة مرآة انقلبت فجأة على أروقة الجامعات، عاكسةً ملامح خفية من واقعٍ يعيشه الكثيرون.
تعددت ردود الأفعال، وتنوّعت المشاعر، لكنها جميعًا اجتمعت على أمر واحد: أن الحديث عن الجامعة ليس حديثًا عن مهنة، بل عن وطنٍ داخل الوطن… عن بيئة نُحِتَت من الحلم، وغُذِّيت بالعلم، وسُقيت بالتضحية.
ثم نمت على ضجيج تلك الأصوات، لا على وسادة من هدوء، بل على نبضٍ حيّ في الذاكرة. ومن رحم تلك اللحظة، انبثق الحلم.
صورةٌ لم تفارقني يومًا، تعود إلى أول الحكاية.
كنت طفلًا أعيش في سكن الجامعة، بين والدين من منسوبيها؛ كانت الجامعة عالمًا مكتملًا:
سكنٌ داخل الحرم، ومدارس نموذجية كنا نخطو إليها مشيًا، ورعاية طبية في مركز صحي ومشفى جامعي نعرف فيه الوجوه قبل المواعيد.
وفي الحلم، لم تكن المشاهد متقطعة، بل كأنها شريط واحد، يربط ما عشناه بما نحلم أن نراه.
رأيتُ الجامعة التي نشأنا فيها تُضيء أمامي بكل ما فيها من بدايات:
سكنٌ بين أروقتها، تعليمٌ في مدارسها، ورعايةٌ في مستشفاها. لم تكن امتيازات، بل كانت ملامح بيتٍ نضجنا فيه، وتشكّلت به وعينا الأول.
ثم صحوت… لا من حلم، بل إلى ملامحه الأولى.
لم يكن ما رأيته خيالًا حالِمًا، بل انعكاسًا نقيًّا لما يمكن أن يكون حين تتلاقى الجذور الصلبة مع الأفق الوطني المفتوح.
رفعت بصري إلى رؤية المملكة 2030، فوجدت كل ما حلمت به مكتوبًا فيها بلغة الممكن.
رؤيةٌ صاغها خادم الحرمين الشريفين، ويقودها ولي عهده الأمين، بوعدٍ صريح:
أن التعليم ليس مرفقًا، بل ركيزة،
وأن الأستاذ ليس موظفًا، بل صانع أثر.
الرؤية لم تكن شعارًا معلقًا، بل ميثاقًا حيًا:
عن تمكين العقول، وتحفيز البحث، واستقلال الجامعات، وتوطين المعرفة، وبناء جامعات لا تُدرّس فقط، بل تُلهم وتُنافس وتُقود.
وحين تتكامل الإرادة الوطنية مع المؤسسة الجامعية، تصبح الجامعة قلب الدولة النابض، والمختبر الذي تُصاغ فيه السياسات، ويُعاد فيه هندسة المستقبل.
الجامعة التي نحلم بها ليست بعيدة…
إنها كامنة في داخل كل من تربّى بين ممراتها، وسمع حكايات جيرانها، وقرأ ملامحها في وجوه أساتذتها.
وهي، اليوم، ليست تكرارًا لما كانت عليه، بل امتدادٌ لما يجب أن تكون عليه.
فمن نام يومًا على ضجيج المقالات…لا بد أن يستيقظ على كتابة التاريخ.
وهكذا نكتب مع الجامعة التي نشأنا فيها… الحلم القادم.