العيون سحرها لا يُنكر، فأول اتصال منها، وهو الذي يسبق أي نوع من الاتصالات الحديثة، يُرسل رسالة عاجلة بالإعجاب، وفي نفس اللحظة يأتي الجواب بالمنع أو بالإيجاب.
النظرة شرارة توقد الحب، أو رسالة باردة تقطع الطريق على من سوَّلت له نفسه أن يتجرأ ويُعلن الإعجاب من أول نظرة. كم من حب كان مهره نظرة فابتسامة.
يقول الشاعر الكبير أحمد شوقي:
خدعوها بقولهم حسناءُ
والغواني يغرهن الثناءُ
أترَاها تناسَت اسميَ لمّا
كثرت في غرامِها الأسماءُ
إن رأتني تميل عني كأن لم
تكُ بيني وبينَها أشياءُ
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ
فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
وكم من نظرة أسرت قلبين، ولكن صوارف الزمان لم تجمعهما بعد ذلك اللقاء الذي كان صدفة، وربما تمنّيا: “يا ليت أنه لم يكن”.
فلواعج القلوب لا يدركها إلا من تولع بالهوى الذي أعقبه النوى.
وهناك أيضًا من اشتكى من تلك العيون، وكيف أنها أمضى من السيف، بل حتى من لقاء الأعداء!
فهم وسهامهم في جال، والعيون بجمالها وفنونها أدهى على القلوب العاشقة من فرط ما تحس به من تلك السهام المحببة، وإن جرحت القلب وأدمعت العيون، فالحب وله وجنون.
هذا ما قاله المتنبي:
لا السيفُ يفعلُ بي ما أنتِ فاعلةٌ
ولا لقاءُ عدوّي مثلَ لقياكِ،
لو باتَ سهمٌ من الأعداءِ في كبدي
ما نالَ منّي ما نالته عيناكِ.
وقال عنترة بن شداد:
كلُّ السيوفِ قواطعٌ إن جُرِّدت
وحُسامُ لحظك قاطعٌ في غمدِهِ.
وكأن للمتنبي في العيون مكامن عشقٍ سهّدته، ولكنه يجد فيها مساحات للبوح تغزّلًا وعتابًا.
وقال في قصيدته هذه:
لعينَيكِ ما يلقى الفؤادُ وما لقي
وللحبِّ ما لم يبقَ منّي وما بقي
وما كنتُ ممَّن يدخلُ العشقُ قلبَهُ
ولكنَّ من يُبصرْ جفونَكِ يعشقِ.
وقال جرير:
إنّ العيون التي في طرفها حَوَر
قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا
يصرعن ذا اللُّبِّ حتى لا حراكَ به
وهنّ أضعفُ خلقِ الله إنسانا.
أما علي بن الجهم، فقد قدّم أبيات شعر من أروع ما قيل في جمال العيون، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد أن الخليفة المتوكل على الله عَلِم شاعريته، رغم ما وصفه به عندما قدم من البادية إلى بلاط السلطان المتوكل، حيث قال:
أنتَ كالكلبِ في حفاظِك للودِّ
وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنتَ كالدَّلوِ لا عدِمناكَ دلواً
من كبارِ الدِّلاء كثيرَ الذنوبِ.
(الذنوب: يقصد يده كريمة تنزف عطاءً).
كان الخليفة المتوكل له في تذوق الشعر والأدب، فلاحظ استياء بعض المقربين من ذلك الوصف، فقال: “خذوه إلى بيت يطل على دجلة حيث الماء والخُضرة والوجه الحسن”.
ولم يكذب عليٌّ خبرًا، فسرعان ما أسرته العيون، فقال:
عيونُ المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدنَ لي الشوقَ القديمَ ولم أكن
سلوتُ ولكن زدن جمراً على جمرِ
سلِّمن وأسلمن القلوبَ كأنما
تُشَكُّ بأطرافِ المثقفةِ السمرِ
وقلن لنا نحنُ الأهلةُ إنما
نُضيءُ لمن يسري بليلٍ ولا تقري.
وأبدع الشعراء في وصف العيون، وكان للعيون الذابلة الفاترة التي لا شك ترسل رسالة وإن بكل سكينة وخضوع، ولكن لا يمكنك إلا أن تقع في حبائل دهائها وأسير شباكها.
فقال أحمد شوقي:
أُداري العيونَ الفاتراتِ السواجيا
وأشكو إليها كيدَ إنسانِها ليا
قتلن ومَنَّين القتيلَ بألسنٍ
من السحر يُبدلن المنايا أمانيا
وكلَّمن بالألحاظِ مرضى كليلةٍ
فكانت صحاحاً في القلوب مواضيا.
ما أمضى سحر العيون، فهي التي تُخضع الجبابرة، فكم أسرت قياصرة وسلاطين وقادة، لم تتمكن منهم المعارك ولا حبائل المؤامرات، فأنحنوا لها طائعين بكل شغف واستسلام.