عام

حين كانت الجامعة بيتًا… وساكنوها قمم تمشي على الأرض (١)

حين أوصلت ابنتي إلى بيت صديقتها في السكن الجامعي الحديث، لم أكن أعلم أن تلك الخطوة العابرة ستكون بوابةً خفيّة نحو عمرٍ من الذكريات. مشيت وحدي في طرقاتٍ تعرفني قبل أن أعرفها، فتنفّس المكان بوجهي، كأن الجدران همست: عدتَ يا ابن الجامعة. عاد شريط الزمن، بملامحه، ورجاله، وروحه.

نظرتُ إلى شارع عبدالله السليمان، فلم يكن مجرد ممرٍ للإسفلت، بل شريان من شرايين الحلم. هنا، على هذه الأرض، كانت الجامعة بلازا قطعة من حرمٍ لم يكتمل بعد، وكانت دار الفكر، ودار الحكمة، ومكتبة الملك فهد، وشركة الكهرباء… كلها خرجت من رحم فكرة أهلية صادقة، حملها رجال جدة على أكتافهم، وآمنوا أن التعليم لا يُنتظر من أحد، بل يُبنى بالإيمان والصدقة والهمة.

ولما تحولت الجامعة في عام 1394هـ إلى كيان حكومي، لم يكن ذلك تحولًا إداريًا فقط، بل كان لحظة ولادة وطنية كبرى. احتضنتها الدولة، وفتحت لها أبواب الرعاية، فكبرت، ونهضت، وصارت مناراتها تُرى من بعيد.

وقد تعاقب على هذه الجامعة رجالٌ لا تُقاس إنجازاتهم بعدد قراراتهم، بل بعدد الأرواح التي غيّروها. الدكتور أحمد محمد علي، أول من أمسك بخيوط الحلم، والدكتور محمد عبده يماني الذي أدخل الطب وعلوم البحار إلى قلب المؤسسة، والدكتور محمد عمر زبير الذي رتّب اللبنات بصبر البنّاء، والدكتور عبدالله نصيف الذي وسّع الأفق نحو العالمية، والدكتور رضا عبيد الذي أعاد رسم الجامعة بيد المعمار ورؤية المبدع. وكان للمعالي الدكتور غازي مدني أثر عميق في نهضة الدراسات العليا وهدوء القيادة. رجالٌ كان لكلٍّ منهم ضوءٌ خاص… وملامحُ باقية في قلب المكان.

هؤلاء وغيرهم، تستحق الجامعة أن تكتب أسماءهم لا على جدران المباني فقط، بل في ذاكرة الأجيال. فالجامعات لا تنهض بالمناهج وحدها، بل بالرجال الذين يضعون الروح فيها، ويزرعونها بالمبادئ.

في ذلك الزمن، لم يكن سكن أعضاء هيئة التدريس مجرد سكن جامعي. كان قرية فكرية، نموذجًا للعيش المشترك الراقي، وبيئةً تتلاقى فيها المروءة بالعلم. رأينا الجار أستاذًا، ورئيس قسم، وعميدًا، ثم لاحقًا وزيرًا، دون أن تتغيّر مشيته أو نبرة صوته أو بساطته. كان المجلس اليومي مفتوحًا، والأحاديث تدور بين الجيران عن طالبٍ نجيب، أو مسألةٍ علمية، أو آفاق الجامعة القادمة.

من جيراننا في ذلك الزمن، كان معالي الدكتور محمد عمر زبير – رحمه الله – الذي ظل قريبًا من طلابه وزملائه حتى آخر أيامه، ومعالي الدكتور عبدالإله باناجة – رحمه الله – الذي جمع بين اللين والحزم، وبين العلم والتربية.

ومن جيران السكن كذلك معالي الدكتور مدني علاقي، رجل الوقار الاقتصادي، يزرع الهيبة بلا تكلف، ويغرس الشغف بالمعرفة. ترك شجرة مانجو في فناء داره، كما ترك فكرًا دائم الإثمار في عقول من جاوره. وكان معالي الدكتور فؤاد غزالي، الرجل الهادئ الذي كلما صمت زاد احترام الناس له. شغل مناصب عظيمة، من وكالة الجامعة إلى أمانة العاصمة،، لكنه بقي بسيطًا في مجلسه، عميقًا في تأثيره.

ومن أعلام الجوار كذلك، الدكتور رضا كابلي، عميد العمداء. حضوره وحده كان درسًا في التوازن بين اللين والحزم، بين العُمق والتواضع. كما كان من بين القامات الدبلوماسية الحيّة، الدكتور عصام شيخ، الملحق الثقافي في كندا، الذي كان يتابع مسارات المبتعثين كما يتابع المعلم نبض طلابه، لا لرقابتهم، بل لحمايتهم، وتوجيههم، ورعايتهم عن بعد.

ثم كبرتُ أنا… في كنف هذا السكن، وبين هذه القامات. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقول بكل فخر:
أنا أحد أبناء هذه البيئة، نشأت على يد رجل عظيم هو والدي، الذي لم يكن مجرد والد، بل كان لنا نبراسًا. علّمنا أن العطاء يُمنح خالصًا، لا يُقال، وأن من يعمل بصمت، يتحدث عنه أثره. كان إذا ذُكر اسمه في الجامعة، توالت القصص والمواقف، لكنّه، في المقابل، لا يذكر منها شيئًا… لأنها خرجت من قلبٍ لا ينتظر المجد، بل يزرعه في غيره.

كان ذلك زمنًا نقيًّا، رجالُه قادة بالفطرة، وجيرانُه قدواتٌ حقيقيون، والعلاقة بين البيت والجامعة لم تكن فصلًا، بل امتدادًا حيًا. لكنّ الأثر لم ينتهِ عند السكن…

بل بدأ من هناك ليصنع رجال القرار، ويحوّل الجامعة من مؤسسة تعليمية إلى منظومة قيادية وطنية…. وهكذا كانت الجامعة…

لم تكن مجرد مبانٍ تُبنى، بل نفوس تُبنى، وقممٌ تمشي على الأرض.
رجالٌ علّمونا أن القيادة لا تبدأ من الكرسي، بل من مجلس الجيران، وأن الهيبة لا تُفرض، بل تُغرس بخلقٍ وهدوء.

في ذلك السكن، رأينا الوطن وهو يتخلّق في ملامح الناس، والجامعة وهي تتمدد خارج أسوارها، إلى أرواح ساكنيها.

كبرنا على مقاعدها، لكننا تربّينا على عتبات أبوابها… في بيوتٍ أضاءها العلم من الداخل، لا الكهرباء فقط. وما زال لتلك الحكاية بقية…

نلتقي بكم غدًا في ذكريات تالية، حين كانت الجامعة بيتًا… وساكنوها قمم تمشي على الأرض (٢). وما أروع البيوت التي لا تنتهي عند أبوابها، بل تبدأ منها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى