المقالاتعام

نجاح حج ١٤٤٦هـ… بيسرٍ وطمأنينة

ولله الحمد والمنّة… اكتمل يوم عرفات من حج هذا العام 1446هـ، وقد وقف الحجيج في موقفٍ لا يُشبِه سواه، بيسر وطمأنينة، موقف تلتقي فيه الأرض بالسماء، وتتماهى فيه الأجساد حتى لا يبقى إلا القلب واقفًا وحده، في حضرة المهابة والمغفرة.
وقفوا كما وقف نبي الرحمة ﷺ، خاشعين، باكين، هاتفين باسمٍ واحد، وراجين فضلًا لا ينقطع: “اللهم لا تردنا خائبين”.
ذلك اليوم، يوم عرفة، ليس كغيره من الأيام. هو يوم التجلّي الأعظم، حين يباهي ملك الملوك ملائكته بعباده الواقفين، يغمرهم برحمته، ويخاطبهم بلسان الرضا: قوموا مغفورًا لكم، قد بدلتُ سيئاتكم حسنات.
على صعيد عرفات…
ينهض هذا البلد بشروق الشمس، كأنما بُعث من سباته من أجل هذا اليوم، وتخبو الحياة فيه عند الغروب، كأن الروح أتمّت طوافها في الزمان، فعادت إلى سكونها.
ساعاتٌ قصيرة… لكنها تحمل في رحمها قرونًا من الشوق، ومواسم من الانتظار.
ساعات تُملأ بالدعاء، بالدموع، بالتكبير، ثم تعود عرفات إلى صمتها… تنتظر عامًا آخر.
ولا تُرى الحياة في عرفات بعد عرفتها، إلا كاستعدادٍ خفيٍّ لحجٍ جديد.
لكن خلف هذا السكون الظاهري، تعمل منظومة لا تهدأ، وتُبنى تفاصيلها بيسر وطمأنينة من جديد، خدمةً لوفودٍ ما زالت في أصلابها، ودعواتٍ ما زالت لم تُولد بعد.
في هذا اليوم العظيم، لم يكن الحجيج وحدهم.
بل كانت خلفهم المملكة العربية السعودية كلها، قلبًا وقالبًا، بيسر وطمأنينة.
خلف كل دعاء، كان هناك طبيب، وخلف كل مظلة ظل، كان هناك مهندس، وخلف كل خطوة آمنة، كان هناك رجل أمن…
كاميرات تُراقب، طائرات تحرس، خيام مكيفة، أطباء يسهرون، متطوعون يبتسمون، تقنيات تنظم، أنظمة تفويج تضبط التوقيت، ذكاء اصطناعي يقرأ الحشود، بطاقات “نسك” ترشد، قطارات دقيقة تنقل، وتطبيقات تتكلم بلغة كل حاج.
كل ذلك لم يكن عرضًا تقنيًا، بل تجلّيًا واقعيًا لشعار الحج: “يسر وطمأنينة”.
لم يكن مجرد تنظيم، بل عبادة تؤدى بعقل دولة، وقلب أمة، ونية خالصة.
وفي لحظة الغروب…
حين تداخل ضوء الشمس مع صوت البكاء، وامتزج لون الأفق بخشوع الأرواح،
عرفت الأرض أنها بلغت أشرف لحظاتها، وأن السماء قد فُتحت، وأن المملكة أدّت الأمانة، وأن الحجيج قد وُدعوا بغفران، لا بوداع… بيسر وطمأنينة.
ولله الحمد والمنّة، اكتمل الحج، وسُجّل في صحائف الرحمة، وبُوّب في دفاتر الخلود،
بفضل الله أولًا وأخيرًا، ثم بجهود عشرات الآلاف من أبناء هذا الوطن المبارك: من المدنيين والعسكريين، من الأطباء والمهندسين، من المتطوعين والمخططين، ممن نذروا أنفسهم لا ليُروا، بل ليخدموا… بيسر وطمأنينة.
ومعهم، كانت القيادة العظيمة تتابع الحجيج خطوة بخطوة، من أول تأشيرة، إلى آخر قطرة زمزم،
وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله.
الذين جعلوا خدمة ضيوف الرحمن شرفًا وسيادة، وأولوها من العناية ما يُبهِر، ومن الإيمان ما يُلهم.
فالحج في جوهره ليس فقط شعيرة… بل هو تخطيطٌ إلهي وتوفيقٌ للأيادي المخلصة.
من حج فقد نال، ومن خدم من حج فقد شارك، ومن دعا فقد كُتب له نصيب، ومن فرح فقد بُورك له، ومن راقب أو رتّب أو سهِر، فقد كُتب له الأجر، فقط لأنه نوى، وسعى، وأخلص.
فيا لعظمة هذا الدين…
دينٌ تتقاسم فيه الأمة الأجر كما تتقاسم الرضا،
دينٌ لا يُنقص من أجر أحد، بل يُبارك في نية الجميع،
دينٌ يجعل من الدعاء والنية والابتسامة… عبادة.
نجح حج ١٤٤٦هـ بفضل الله… وكان يوم عرفة فيه يومًا تُباهي به السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى